ساعدنا على تحسين موقعنا

Translate

التفسير العقدي سورة النازعات

سورة النازعات

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً
 سورة النازعات 1-4
سميت هذه السورة الكريمة بالنازعات ؛ لورود هذا اللفظ في مستهلها , ومقاصد هذه السورة قريبة من مقاصد سورة النبأ , فإن فيها ما في القرآن المكي من المقاصد العقدية :
فمن مقاصدها : إثبات البعث , وبيان أهوال يوم القيامـة .
ومن مقاصدها : بيان مصارع المكذبين بالبعث ، كما في  قصة فرعون .
ومن مقاصدها أيضاً : تقرير توحيد الربوبية، المقتضي لتوحيد الإلوهية. كما في قوله في بقية السورة : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ) , وما بعدها .
ثم أخيراً من مقاصدها : إثبات أفعال العباد , وترتب الثواب والعقاب عليها .
ويمكن تقسيم هذه السورة إلى مقاطع ذات وحدة موضوعية متميزة , فمنها الآيات الخمس الأول يقول الله عز وجل : 
( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5)) ,
هذه أمورٌ خمسة أقسم الله - سبحانه تعالى - بها , ولله - عز وجل - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته. قيل في هذه الخمس جميعاً أن المراد بها الملائكة , وقيل أقوال أخر.
( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ) أي : الملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً , وتجذبها جذباً أليماً . فمعنى ( غرقاً ) أي : شديداً , من الاستغراق بالفعل، فهو نزع شديد , كما جاء موصوفاً في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - :
" كما ينزع السفود من الصوف المبلول " ,
فإن روح الكافر عند القبض، تتفرق في أنحاء جسده ,
فإذا نزعتها الملائكة وقالت:
(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام/93] ,
 تتفرق روحه في جسده , فينزعها الملك نزعاً شديداً .
هكذا قيل في تفسير ( والنازعات غرقاً ) , وهو مروي عن جمع من الصحابة - رضوان الله عليهم - ,
وقيل في تفسير (  النازعات ) : أي الموت ، كما يقال نزعات الموت , أو نزع الموت , وقيل أيضاً أن المراد بالنازعات : النجوم التي تنزع من جهة إلى جهة , وتتحرك من جهة إلى أخرى , فهي تنزع من جانب من السماء إلى جانب , وتنتقل من منزل إلى منزل, وقيل المقصود بالنازعات: القسي الذي يكون فيها السهم , فكأن الله تعالى أقسم بهذه القسي حينما تنزع إلى منتهاها ,
وقيل في تفسير ( النازعات ) النفس .
هذه أقوال خمسة , وأقرب هذه الأقوال هو القول الأول , وهو أن المراد بالنازعات الملائكة حين تنزع أرواح الكفار من أجسادهم .
( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا )  أحسن ما قيل فيها : الملائكة حينما تسل أرواح المؤمنين سلاً رفيقاً , كما جاء موصوفاً في حديث البراء بن عازب : " فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين " , وسل الشعرة من العجين أرفق ما يكون , لا صوت، ولا ألم . فأقسم الله بالملائكة حينما تسل أرواح المؤمنين من أبدانهم .
وقيل فيها أيضاً ما قيل في سابقتها ؛ أن المقصود بالناشطات الموت ، أو النجوم حينما تنشط من جهة إلى جهة، وقيل فيها أيضاً المقصود بالناشطات : الأوهاق، يعني الحبال التي ترمى بها الأنشوطة, فيسحب بها مثلاً الصيد , والأنشوطة : حبل يكون فيه كالعقدة، يرمى على الشيء البعيد، فيجر به .
( والسابحات سبحاً ) , الأصل في السبح العوم في الماء، وأيضاً في الهواء , فالسبح لا يكون فقط في الماء، بل يكون في الهواء أيضاً, ولهذا يوصف الجواد بأنه سابح
أعز مكان في الدنا سرج سابح              وخير جليس في الزمان كتاب
وأولى الأقوال، كما أسلفنا، أن المراد بها الملائكة حينما تعرج في أجواز الفضاء صعوداً، وهبوطاً، بأمر الله عز وجل , فإن الملائكة كما أخبر الله : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) ,
وقال : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ) ,
فالملائكة تصعد وتهبط بأمر الله عز وجل ,
وقيل في ( السابحات ) أيضاً ما قيل في ما قبلها؛ أن المراد بها الموت,
وقيل أن المراد بها النجوم ؛ لأنها تسبح في فضاء الله عز وجل,
وقيل فيها أيضاً السفن؛ لأنها تمخر اليم فهي تسبح فيه في الواقع .
( فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً ) هذه الفاء للتفريع تدلنا على أن جميع المذكورات شيء واحد , وصفات لموصوف واحد , فالمذكورات السابقة النازعات , والناشطات , والسابحات هي لموصوف واحد وهي الملائكة على القول الراجح , وأنها ليست أنواعاً يعني ليست النازعات شيء , والناشطات شيء , والسابحات شيء , بل كل هذه صفات لجنس واحد ؛ لأنه أتى بعد ذلك بالفاء للتفريع على ما مضى .
( فالسابقات سبقاً ) أي : الملائكة تتسابق في امتثال أمر الله , وتنفيذ ما يطلب منها من أنواع الوظائف التي أناطها الله بها.
وقيل أيضاً أن المراد بالسابقات: الموت كما قيل فيما مضى ,
وقيل المراد بها الخيل ؛ لأن السابقات مما توصف به الخيول
كما قال الله تعالى : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً )
فهن يعدون ويتسابقن,
وقيل أيضاً: المراد بها النجوم ؛ لتسابقها في المطالع والمغارب .
وأولى الأقوال هو القول الأول كما أسلفنا.
(  فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) أما المدبرات فإنها بإجماع المفسرين: الملائكة , فهي تدبر الأمر الذي يأمرها الله تعالى به. وهذه الجملة الأخيرة، التي هي الوصف الخامس، تؤيد أن جميع ما مضى صفات لموصوف واحد ؛ لأن الله تعالى عطف المدبرات على السابقات , والسابقات جاءت مصدرة بالفاء التي تفيد التعقيب ,
فهذا يرجح بقوة أن النازعات , والناشطات , والسابحات , والسابقات , والمدبرات كلها طوائف من الملائكة، أناط الله تعالى بها أعمالاً ووظائف .
هذه الآيات الخمس عبارة عن قسم , بين الله تعالى المقسم به ولم يبين جواب القسم ؛ والظاهر والله أعلم، أن الله تعالى أخفاه إما تعظيماً لشأنه , وإما لشهرته ؛ لكونه هو الأمر الذي كان يجري الخلف فيه مع مشركي العرب، وهو البعث . فتقدير جواب القسم : لتبعثن. كأن الله تعالى يقول والنازعات، والناشطات، والسابحات , فالسابقات ، فالمدبرات لتبعثن. فيكون المعنى الإجمالي لهذه الآيات الخمس أن الله تعالى أقسم بطوائف من الملائكة منها النازعات التي تنزع أرواح الكفار بشدة ، والناشطات التي تنشط أرواح المؤمنين بيسر وسهولة ، والسابحات التي تسبح في أجواز الفضاء صعوداً وهبوطاً ، والسابقات التي تتسابق في إنفاذ أمر ربها ، والمدبرات التي تدبر ما أمرها الله تعالى بتدبيره مما يقع في الكون , أقسم الله تعالى بهذه الطوائف من الملائكة على أمر عظيم جليل , عليه مدار الحياة، وإقامة الحق, وهو البعث بعد الموت، الذي كان ينكره مشركو العرب، ولا ريب أن هذه القضية قضية عظيمة ثقيلة يتأثر بها مسار الحياة؛ فإن من امتلأ قلبه بالإيمان باليوم الآخر، انضبط، وصار عنده حس يقظ , وصار عنده تخطيط، وشعور بالمسؤولية لما هو مقبل عليه .
ونستفيد من هذه  الآيات الخمس الفوائد التالية :
أولاً : إقسام الله تعالى بما شاء من مخلوقاته , فلله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته , وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله وحده. فمن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك , أما الله عز وجل فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وآياته الكونية، والشرعية .
ثانياً : إثبات الملائكة، وأعمالهم. والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان. والملائكة عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور, وسخرهم  لعبادته وطاعته , فهم يسبحون الليل والنهار لا يسئمون , ولا يفترون , ولا يستحسرون. وقد جعل الله تعالى طبيعتهم طبيعة تعبدية، لا ينزعون إلى الشر أبداً، على النقيض من الشياطين الذين جعل الله طبيعتهم طبيعة تمردية. وبين الطائفتين الإنسان؛ فإن الإنسان ليس كالملك لا ينزعه إلا الخير, وليس كالشيطان لا ينزعه إلا الشر, بل هو كما قال الله تعالى : ( ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها , قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها ) , فالإنسان بين بين , فهو إن زكى نفسه صارت نفسه ملائكية؛ يعني طائعة لله عز وجل لا أنه يكون ملكاً, لكن تصبح نفسه نفساً مطيعة لله عز وجل منقادة كالملائكة, وإن كانت الأخرى صارت نفسه شيطانية .
ثالثاً : أن إخفاء المقسم عليه يكون للتعظيم , أو للشهرة , فالله تعالى قد أخفى المقسم عليه، وهذا يزيد الأمر جلالةً ومهابةً .

( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ سورة النازعات 6-14 
تسع آيات ذات وحدة موضوعية واحدة .
( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) ) : هذا الظرف متعلق بما أضمر، وتقديره: لتبعثن يوم ترجف الراجفة.
والراجفة:
- قيل في تفسيرها: النفخة الأولى التي يحصل بها الصعق، والرادفة النفخة الثانية التي يحصل فيها البعث. ولا ريب في وجود نفختين،
فإن الله سبحانه وتعالى قال : ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون )
فالنفختان هما:  نفخة الصعق , ونفخة البعث.
وأضاف بعض العلماء نفخة ثالثة، سموها نفخة الفزع , واستدلوا لذلك بأحاديث. - وقيل أيضاً في تفسير الراجفة: أنها النفخة الأولى ، وأن الرادفة هي النفخة الثانية , وقد ورد هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
- وقيل: إن المراد بالراجفة هي الأرض نفسها؛
لقول الله تعالى : ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً)،
والرادفة: السماء؛ لكون انشقاق السماء يأتي بعد ذلك, فتكون الراجفة الأرض حين ترجف , والرادفة السماء حين تنشق. ولعل ما ذهب إليه ابن عباس أقرب .
(  قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) ) :
صور الله سبحانه وتعالى، مظاهر الفزع، والخوف، ظاهراً، وباطناً ؛ أما الباطن ففي قوله : ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ) أي : خائفة , والخوف محله القلب وأي خوف أعظم من ذلك الخوف الذي لا يدرى صاحبه إلى أين يصار به؛ إلى جنة أم إلى نار ؟ تخيل نفسك في بعض مواقف الدنيا، في أمر دنيوي عما قليل تتجاوزه، وتشتغل بغيره؟ فكيف بهذا الأمر الأبدي، السرمدي، الذي هو نهاية حال العبد ؛ فلذلك كانت القلوب واجفة .
( أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) : أبصار أصحاب القلوب خاشعة، أي: ذليلة؛ لأن الخشوع هو الهبوط. ولا ريب أن القلب هو سر العبد الداخلي, ولا ريب أن العين، أعظم ما يظهر عليه الأثر. العين هي المرآة التي تكشف عما في القلب. ولما وصف الله حال الظالمين، قال : ( ينظرون من طرف خفي )! فالطرف، والنظر، ينبأ عما في القلب فهو مرآته العاكسة. والخشوع يدل على الهبوط, قال تعالى: ( وترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) .
( يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ) : تساؤل عجيب! يكشف عن قلق، وتوتر، وعجب لا ينقطع. (لمردودون) يعني: معادون ,
( في الحافرة ) الحافرة: هي الحياة بعد الموت.
يعني أنعود نحيا بعد أن متنا , كما وصف الله عز وجل هذا في موضع آخر:
 ( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون )
والنسلان هو الإسراع في المشي,
( قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا )
ما كانوا يتوقعون هذا ولا يأملون ؛ لأنهم كانوا منكرين للبعث,
( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون )
 فيالها من مفاجأة , وأي مفاجأة ! صدمة هائلة لهؤلاء المنكرين للبعث. وتأمل وقع هذه الآيات عليهم في الدنيا، وهم ينكرون البعث, لا ريب أن مثل هذه الآيات هزت كثيراً من القلوب ودعتها إلى الإيمان , إلا من أبى.
وقيل في تفسير الحافرة،
أي: الأرض؛ يعني: أنحن مردودون إلى الأرض التي كنا نسكنها ؟
وقيل، وهو قول بعيد: (الحافرة)  النار. ولا يستقيم هذا مع قولهم ( لمردودون ) ؛ لأنهم ما كانوا فيها حتى يردوا  إليها.
وأصل الحافرة في لغة العرب: رجوع المرء من الطريق الذي أتى منه.
تقول العرب : " رجع فلان إلى حافرته " 
 كأن الإنسان إذا سلك درباً حفر أثره في طريقه, فإذا قيل رجع فلان إلى حافرته، كأنما قيل رجع أدراجه يعني رجع على سيرته، وخطته التي مشاها.
( أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً ) : يعني بعد أن كنا عظاماً، بالية، فانية, فارغة يصوِّت فيها الريح ؛ لأنها لما بليت، صارت مجوفة، فصارت الريح تصفر فيها، تدخل، وتخرج. وقيل أيضاً من معاني نخرة: مرفوتة، يعني مدقوقة محطمة .
( قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ) : يعني إن كان الأمر كذلك، فهذه رجعة لا خير فيها، والعياذ بالله؛ لأنهم يعلمون أنهم أساءوا في الأولى، فهم غير متفائلين لهذه الرجعة، فلذلك حكموا على رجعتهم بأنها خاسرة ،لا خير فيها .
( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ) : يعني كل ما في الأمر, فالأمر هين بالنسبة لله عز وجل، أنها زجرة واحدة، وحسب. , والزجرة: هي الصيحة, لكنها بهذا التعبير زجرة تعطي معنىً أشد، من كلمة صيحة, ففيها معنى العنت، والعنف, زجرة واحدة، لا مثنوية فيها .
( فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) : يعني فإذا القوم تنشق عنهم قبورهم، ويبعثون ؛ ليكونوا في الساهرة,
والساهرة: هي الأرض بعد التبديل.
يقول الله عز وجل : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ),
فالأرض التي يبعث عليها الناس، أرض كالقرصة, وكالخبزة , ليس فيها معلم لأحد؛ فإن الله أخبر أن الجبال تدك،
فتصبح: (قاعاً صفصفاً . لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ) ,
مشهد مهيب، مهول, تعود الأرض ممدودة كمد الأديم، ليس فيها معلم لأحد؛ لا جبل يشرف منه الإنسان، ولا وادٍ يُكنُّه, بل يصبح الناس على حد سواء.  هذه هي أرض المحشر.
وقيل في تفسير الساهرة أي: أنها اسم مكان معروف من الأرض في الشام, وقيل : إنه جبل إلى جانب بيت المقدس.
 وأقرب هذه الأقوال أن الساهرة هي الأرض التي تكون بعد التبديل, أرض ليست كأرضنا التي نحيا عليها الآن, بل أرض مهيأة لاجتماع الخلائق عليها, منذ آدم عليه السلام إلى آخر من يموت على وجه الأرض, ليس الآدميين فحسب، بل كما سيأتي إن شاء الله , 
( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) ,
فالعشار, والوحوش, وكل شيء يجتمع على تلكم الأرض .
هذه الآيات العظيمة تتضمن إقرار عقيدة البعث، بأوضح ما يكون، وبأشد ما يكون! فالله سبحانه وتعالى يبدأ بذكر ما يجري يوم القيامة؛ من رجف الأرض, فيخبر الله عز وجل بأن هذه الأرض المستقرة، التي امتن علينا باستقرارها في موضع،
فقال : ( أمن جعل الأرض قراراً ),
ضع يدك على الأرض تحس أنها مستقرة, لم يدر بخلدك يوماً أن تتحرك، وتهتز, هذه الأرض ترجف ( يوم ترجف الراجفة ) ,
ورجف الأرض مقارن للنفخة الأولى, فلا تعارض بين التفسيرين, ولا مانع من الحمل عليهما معاً,
(تتبعها الرادفة) نفخة أثر نفخة. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن بينهما أربعون, فقيل : أربعون سنة؟ قال : أبيت، فقيل: أربعون شهراً ؟ قال : أبيت , قيل: أربعون يوماً ؟ قال : أبيت . فالله أعلم، بأي تقدير تلك الأربعين,. ويكون حال الناس، ما وصف الله تعالى من وجف القلوب، واضطرابها, ومن خشوع الأبصار وقلقها، وحيرتها، فزعاً مما هي مقبلة عليه. ويتساءل المنكرون للبعث في ذلك المقام، تساءل المشدوه، الفزِع، المصدوم: ( أإنا لمردودون ) لما كنا فيه من حياة, معادون للأرض التي كنا نسكنها ؟ يا لها من خسارة فادحة ! فهم قد علموا من حالهم أنهم كانوا مكذبين، وحق عليهم ما توعدهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، فأدركوا أن أمرهم في خسار، وسفال, فلذلك جزموا ( تلك إذاً كرة خاسرة ) , وبين الله تعالى أن الأمر حق، لا مثنوية فيه : ( فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ) .
هذه الآيات تضمنت العديد من الفوائد منها :
الأولى : إثبات النفختين.
الثانية : عظم شأن الساعة. ولهذا كان من رحمة الله عز وجل أن الساعة، لا تقوم على مؤمن , لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق .
الثالثة : بيان مظاهر الخوف؛ الظاهرة، والباطنة؛ الباطنة في القلوب , والظاهرة في الأعين .
الرابعة: صدمة الكفار يوم القيامة, وشدة ندمهم

( هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ) : ما أجمل التعبير القرآني وألذه , وما أحسن سبكه ونظمه، حينما ينتقل من أسلوب إلى أسلوب , فقد أتى بطريقة الاستفهام، لتنبيه الأفهام، ولفت الأنظار. والمخاطب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وما من قصة جرى تكرارها في القرآن، كقصة موسى ! كثيراً ما يذكر الله عز وجل، قصة موسى، عليه السلام، في القرآن، ويعرضها بصور متنوعة. وسر ذلك، والله أعلم،  ما تضمنته قصة موسى عليه السلام من المواقف الجليلة، والعبر العظيمة ، ولتشابه حال موسى، عليه السلام، بحال محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن موسى عليه السلام أخرج أمته من الكفر، والظلم، والبغي, وأسس دولة كما محمد صلى الله عليه وسلم. ولأن اليهود كانوا شوكة في جنب المسلمين في المدينة، فأراد الله أن يبين حالهم، وأخلاقهم، وصنيعهم مع نبيهم.
وها هنا إشكال ! قد يقول قائل :
أليس الله تعالى ذكر ما يدل على أن قصة يوسف أحسن القصص؛  فإنه قال بين يدي سورة يوسف :
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القران وإن كنت من قبله لمن الغافلين), 
فلم لم يقع تكراررها، كما تكررت قصة موسى؟
والجواب: أن قصة يوسف، عليه السلام، قصة من القصص, وقصص غيره من الأنبياء أعظم فائدة , فإن أنباء الرسل، وما جرى بينهم وبين أقوامهم من المسائل حول الكفر والإيمان، أكثر أهمية من قصة يوسف عليه السلام.  فلا يلزم أن يكون هذا الاستهلال في أول سورة يوسف خاصاً بتلك القصة, وإنما هو وصف لقصص القرآن جميعاً, لكن، لما كانت هذه السورة من أولها إلى آخرها قصة، ناسب ذكر ذلك في أولها.
وربما يقال : أنه أتى بهذا التعبير " أحسن القصص " بين يدي قصة يوسف، لأنها من الناحية القصصية البحتة، فيها ما ليس في غيرها من السور, من عنصر المفاجأة, والتنقل من حال إلى حال, ومن نعمة إلى نقمة, ومن نقمة إلى نعمة, ومن منحة إلى محنة, ومن محنة إلى منحة, ومن عز إلى ذل, ومن ذلً إلى عز. ففي هذا التنوع، من الناحية القصصية الفنية البحتة ما ليس في سواها من القصص.
(إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) : لم يسق سبحانه جميع قصة موسى هنا, وإنما ذكر سبحانه موقفاً هاماً، مؤثراً، عظيماً، جليلاً, وهو تكليم الله له تعالى له دون واسطة . فإن موسى، عليه السلام، لما سار بأهله من صحراء مدين، وقارب الطور، آنس ناراً فقصدها, فلما اقترب من النار كلمه الله عز وجل. فكان هذا الموقف بالنسبة لموسى أشرف موقف، ولا ريب.
( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ ) : والمناداة هي الصوت لمن بعُد , كما أن المناجاة هي الصوت لمن قرب, ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً ) فالمناجاة للقريب، والمناداة للبعيد.
( بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) : المقدس: المطهر, واسمه طوى , هكذا رجح ابن كثير، رحمه الله، وغيره. وقيل : أنه بمعنى طء , يعني أمر لموسى بالوطء، والسير عليه. وقيل: معنى طوى : الذي طويته, أي طويته يا موسى وسرت فيه. وقيل : أن طوى: بمعنى مرتين , يعني: إذ ناده ربه بالواد المقدس مرتين, وكأنه قصد بالمرتين المناداة، والمناجاة, فصارت الأقوال في معنى " طوى " أربعة، أقربها أنها اسم للوادي .
( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ) : هذا هو نص النداء، نص تكليم الرب لموسى الكليم. وفرعون لقب يطلق على من ملك مصر من أهلها. وفي سورة يوسف سمى الله صاحب مصر ملكاً
فقال: ( وقال الملك أتوني به ).
وفي هذا إشارة إلى أن ملوك مصر زمن يوسف، عليه السلام، غير الفراعنة، وهم (الهكسوس). وهؤلاء (الهكسوس) قبائل أغارت على مصر في فترة معينة، إبَّان حكم الأسر الفرعونية المتعاقبة. أما في زمن موسى، عليه السلام، فقد عاد الفراعنة إلى ملك مصر . والمقصود أن (فرعون) لقب لمن ملك مصر، كما أن (كسرى) لقب لمن ملك الفرس, و(قيصر) لقب لمن ملك الروم , و(المقوقس) لقب لمن ملك القبط, و(النجاشي) لقب لمن ملك الحبشة , و(الخاقان) لقب لمن ملك الترك, وهكذا .
( إِنَّهُ طَغَى ) : أي تجاوز الحد وتمرد وتجبر، قبحه الله،  فكان يقتل أبناء بني إسرائيل, ويستحيي نسائهم. وبلغ به الأمر أن خرج على قومه مرة بصورة المجتهد، المستفرغ لطاقته، واجتهاده، ونصحه، قائلاً : (ما علمت لكم من إله غيري)!
( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) : انظر هذا التلطف في الدعوة! لم يقل له: زكِّ نفسك! بصيغة الأمر, وإنما تلطف في الأسلوب
فقال له : ( هل لك ) يعني: أدعوك، وأعرض عليك (أن تزكى).
والتزكية تعني : التطهر، بتنقية النفس من شوائب الشرك, والغل, والأخلاق الرذيلة, والتصرفات القبيحة .
( وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) : وهذا لون آخر في التلطف, فإنه وضع نفسه بموضع الهادي، والدليل كأنما يقول: أنا كالذي يمشي بين يديك, والدليل الذي يدلك على الدرب. وهذا من التواضع في الدعوة لأنه يخاطب ذا سلطان, ومعلوم أن الخطاب لأصحاب المقامات، والوجاهات، ليس كالخطاب لآحاد الناس, فينبغي أن ينزل الناس منازلهم. ويقال إن واعظاً دخل على أحد الخلفاء، فوعظه موعظة جافة, فيها غلظة, فقال له الخليفة : يا هذا! إن الله قد بعث من هو خير منك, إلى من هو شر مني,
 فقال : ( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ), ولا ريب أن الله تعالى يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف .
وفي قوله: (إلى ربك ) تلطف أيضاً؛ حيث ذكَّره بربوبية الله له.
وقوله: (فتخشى): أي يثمر ذلك لك خشية، وينقشع ما في قلبك من قسوة وغلظة.
( فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ): عرض عليه أن يريه آية، قال: ( فأت بها إن كنت من الصادقين. فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) يعني: ألقى عصاه، فاستحال حيةً حقيقية، وأدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، فإذا هي تبرق بيضاء، من غير سوء! آيتان عظيمتان، باهرتان، حتى إنه أرتج على فرعون, وأخذ يخبط في التهم. ومعنى ( الآية الكبرى ) أي العلامة الباهرة .
( فَكَذَّبَ وَعَصَى ) : يعني: ومع أنه تحدى، ولم يصمد أمام التحدي , فقد كذب وعصى .
(  ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ) : وفوق ذلك، ما ترك الأمر مغلقاً، بل أدبر يسعى سعياً حثيثاً في الصد.
(  فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) :
أي جمع الناس، وأعلن قائلاً : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) يعني زاده ظهور الحق إصراراً على الباطل, حتى إنه قال لهامان، وزيره: (ابن لي صرحاً لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً ) وغير ذلك من صنوف الطغيان.
( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ) : اختلف المفسرون في هذا، فقيل : أن المراد بالآخرة: آخر كلامه, والأولى أول كلامه, فآخر كلامه  " أنا ربكم الأعلى" , وأول كلامه  "ما علمت لكم من إله غيري" , وقيل : أن المراد بالآخرة والأولى: الآخرة، والدنيا. فالله تعالى أذاقه عذاب الدنيا, وعذاب الآخرة؛ عذاب الدنيا بالغرق, ومن قبل الغرق الطوفان, والجراد, والقمل, والضفادع, والدم, وأما في الآخرة، فلا يخفى : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) ؛ وإنما قدم الآخرة لأنها أشد, وقيل في تفسير الآخرة والأولى: يعني أول عمله، وآخره , وهو قريب من المعنى الأول .
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) : أي موعظة، وتوقظة، لمن في قلبه خشية, لأن الآيات، والمواعظ لا ينتفع بها إلا أهل الخشية .
فالمعنى الإجمالي لهذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يضرب مثلاً للكافرين، المنكرين للبعث، بقصة جبار من الجبابرة الظالمين, وكيف كانت نهايته, فذكَّر الله تعالى بقصة موسى، عليه السلام، حينما أمره ربه أن يقصد فرعون بسبب طغيانه، وجبروته، وتمرده, وأن يعرض عليه مشروع الإيمان، وطريق الهدى، والخشية، والتزكية, فركب رأسه وأبى, وبالغ في إنكاره، وجبروته، وكفره، فادعى الربوبية، بعد أن كان قد ادعى الإلوهية . فكان من شأنه، أن أذله الله تعالى، وأخزاه خزياً ما بعده خزي, فأهلكه الله بألطف الأشياء وهو الماء, فأغرقه فيه, ثم يوم القيامة يحرقه بالنار. وفي هذا عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فلينتبه هؤلاء المشركون، المنكرون للبعث، الذين يظنون أنهم إنما يمتعون في هذه الدنيا، ثم ينتهي كل شيء.
الفوائد المستنبطة :
الفائدة الأولى : عناية القرآن بقصة موسى، عليه السلام، وكثرة تكرارها، وتنوع عرضها .
الفائدة الثانية : إثبات صفة الكلام لله، سبحانه، بصفة المناداة, فهو يتكلم متى شاء كيف شاء بما شاء.
الفائدة الثالثة : أن كلام الله، عز وجل، متعلق بمشيئته؛ لأنه قال : ( هل أتاك حديث موسى , إذ ناداه) , و (إذ) تدل على ظرفية زمنية, فهذا يدل على أن الله يتكلم متى شاء، خلافاً للأشاعرة ، والكلابية، والسالمية ، وغيرهم من فرق الصفاتية، الذين يقولون إن كلامه هو المعنى القديم القائم في ذاته، وليس من صفاته الفعلية, بينما يعتقد أهل السنة إن كلام الله قديم النوع، حادث الآحاد, فهو قديم النوع بمعنى أن الكلام صفة ذاتية له باعتبار أصله , ولكنه يتجدد باعتبار آحاده، وأفراده .
الفائدة الرابعة : فضل موسى، عليه السلام. ولهذا يقال: موسى الكليم .
الفائدة الخامسة : فضل وادي طوى وشرفه ؛ لأن الله طهره فقال : ( بالواد المقدس طوى ) .
الفائدة السادسة : قبح الطغيان وفاعله , ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) , فالطغيان مرذول، مذموم.
الفائدة السابعة : التلطف في الدعوة, لاسيما مع أهل السلطان , فلكل مقام مقال.
الفائدة الثامنة : بيان غاية الدعوة وثمرتها, (فقل هل لك إلى أن تزكى , وأهديك إلى ربك فتخشى), إذاً غاية الدعوة التزكية, وثمرتها الخشية ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ), إذا أردت أن تقيس حالك فانظر خشية الله في قلبك. العالمون بالله حقاً هم أهل الخشية. لا تنظر إلى ما عندك من كتب, ودفاتر, بل انظر إلى ما في قلبك, فإن كان قلبك مخبتاً، خاشعاً لله عز وجل, فأنت من أهل العلم؛ لأن الخشية ثمرة هذا العلم. وإلا لا فائدة من كثرة المرويات, والمحفوظات، مع قسوة في القلب. وليس في هذا تقليل من أهمية التحصيل, ولكن على طالب العلم أن يوظف علمه في خشية الله, فإن العلم النافع، هو الذي يورث الخشية .
الفائدة التاسعة : تأييد الله تعالى لأنبيائه بالآيات, التي يسميها بعض العلماء المعجزات. فلما علم الله تعالى، أن من الناس من لا يستجيب إلا بآية ظاهرة، خارقة للعادة, أجرى على أيدي رسله هذه الآيات , ولم يكلهم فقط إلى مضمون الدعوة, بل نوَّع دلائل النبوة. وأعظم الأنبياء آية هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح ( ما من نبي إلا وقد أتاه الله من الآيات ما على مثله يؤمن البشر , وإنما كان الذي أوتيته قرآن يتلى ), فأعظم آيات نبينا، صلى الله عليه وسلم،القرآن العظيم, آية خالدة , وها نحن نقرأ هذه الآيات العظيمة فنعجب، وننبهر، ونندهش من تأثيرها, ومعانيها, وحكمها.
الفائدة العاشرة : غلظ كفر فرعون, وشدة عناده. ولا يعلم أحد من البشر اشتهر بإنكار الربوبية مثل فرعون, فإنه أنكر ربوبية الله، وادعاها لنفسه, أنكرها بقوله : (وما رب العالمين), وادعاها لنفسه في قوله: (أنا ربكم الأعلى) , فلذلك صار مضرب المثل في الكفر، الجبروت، والإلحاد .
الفائدة الحادية عشرة : شدة أخذ الله للظالم الطاغي, ( إن أخذه أليم شديد ).
الفائدة الثانية عشرة : وجوب الاعتبار, والاتعاظ بمصارع الظالمين, ( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) .
الفائدة الثالثة عشرة : أن الخشية سبب الانتفاع بالمواعظ, لأن صاحب القلب القاسي مهما رأى, ومهما سمع, ومهما وقع له, مقفل على قلبه, أما صاحب القلب اليقظ الواعي , الذي تسري فيه نسائم الخشية يتأثر, تأمل في حال أهل العلم النافع: ( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً , ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً , ويخرون للأذقان يبكون , ويزيدهم خشوعاً ) , ما الذي أبكاهم ؟ مجرد آيات طرقت أسماعهم , لكن هذه الآيات ليست مجرد حروف معجم، بل حروف ذات معاني , لامست أوتاراً حساسة في قلوبهم, فانفعلت تلك القلوب, وهملت تلك العيون, وخرت تلك الأعضاء خروراً، من أعلى إلى أسفل ( يخرون للأذقان سجداً ) يجعلون أذقانهم  في الرغام إجلالاً لله, وخشية له,. وتأمل في حال مؤمني أهل الكتاب: ( وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ), وأخبر الله تعالى عنهم في موضع آخر، فقال : ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق , يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ). فليحرص كل مؤمن على أن يضمخ قلبه بخشية الله, هذه خشية تلين القلب , وتجعله حسن الاستقبال للمواعظ والعبر, والآيات الكونية والشرعية. نسال الله أن يرزقنا خشيته في السر والعلن .
قال الله تعالى : 
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
 سورة النازعات 15 - 46
( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ) : هذا استفهام تقريري، بغرض تنويع الخطاب لهؤلاء المنكرين للبعث. ( أأنتم ) الهمزة الأولى همزة الاستفهام , والثانية في أصل الضمير, والجواب معروفٌ سلفاً، فقد قال الله عز وجل : ( لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ), فالله تعالى ينعى على هؤلاء المنكرين للبعث، والمستبعدين له بقولهم ( من يحيي العظام وهي رميم ) بأن الذي خلق السموات السبع الشداد قادر على أن يعيد خلقهم، كما قال في الآية الأخرى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم/27], ففي هذا إقامة لحجة عقلية، حسية، على هؤلاء المنكرين للبعث, ويقول في الآية الأخرى : (أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم). ثم إنه سبحانه وتعالى بين كيفية خلق السماء فقال: (بناها), على الصفة التي جاءت الآيات بعدها مفسرة لها, ومعنى بناها: أي شيدها وأقامها .
( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) : ومرجع الضمير إلى السماء , والمراد بالسمك: الارتفاع. وقيل إن السمك المقصود به السقف, فما بين السماء والأرض مسافة هائلة طويلة. ومعنى سواها: أي جعلها معتدلة الأرجاء، واسعة الفناء، لا فطور فيها، ولا تفاوت . والناظر في هذه السماء يسرح طرفه في أرجائها، ويعجب من دقة خلقها، ومتانته, لا يجد فيها الإنسان أدنى ثقب ,
كما قال تعالى : ( فارجع البصر هل ترى من فطور ) يعني من شقوق وصدوع ,
( ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) ,
فيكِلُّ الطرف عن العثور على مقدار ثقب إبرة في هذه السماء المحكمة. فيا لها من آية عظيمة! ولهذا ندب الله المؤمنين إلى التفكر فيها،
فقال تعالى : (أفلا ينظرون إلى السماء كيف رفعت) ,
 وهذا يدلنا على طريقة القرآن في بناء العقيدة , وهو أنه يوجه العقول والأنظار إلى مظاهر الربوبية ؛ ليحصل بذلك توحيد الإلوهية .
( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ) : مرجع الضمير إلى أقرب مذكور وهو السماء. ومعنى ( أغطش ليلها ) أي جعل ليل السماء مظلماً. فمعنى أغطش أي أظلم. ومعنى ( وأخرج ضحاها ): أي أظهر ضحاها بنور الشمس , فالشمس إذا بدت في السماء بان الضحى, وأسفر المكان, وإذا احتجبت الشمس عن هذه السماء عادت الظلماء. وهى دورة متكررة في اليوم والليلة.
كما قال تعالى: ( يكور الليل على النهار , ويكور النهار على الليل ) , وفي تعاقب الليل والنهار حكم بالغة في, يطول المقام بذكرها، لكن لا تقوم حياة الآدميين إلا بها, فلو اختل ذلك النظام لحصل اضطراب في الحياة البشرية؛
ولهذا قال الله عز وجل : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) , 
فحياة الإنسان , وحياة الحيوان , وحياة النبات , تتأثر بتعاقب الليل والنهار كما هو معروف, وكما كشفت عنه العلوم الحديثة، بأوضح ما يكون. ويحسن أن يكون لطالب العلم نوع اطلاع على البحوث الحديثة في علم الفلك , وفي علم الفيزياء , وفي علم وظائف الأعضاء , وفي علم النبات , وفي مختلف العلوم الحديثة ؛ لأنها تزيد المؤمن إيماناً , وإن كانت لا تزيد الكافرين إلا ضلالاً،
كما قال ربنا عز وجل : ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ,
فالمؤمن، صاحب القلب المفتوح تزيده هذه المكتشفات , وهذه الحقائق العلمية إيماناً بقدرة الله عز وجل , وكمال ربوبيته. وقد ألف بعض الملحدين قبل نحو خمسين سنة كتاباً سماه " الإنسان يقوم وحده "، وهو كاتب شيوعي، يريد أن يقرر أن الإنسان مستغن بنفسه , وأنه ليس بحاجة إلى إله , فألف أحد الناس كتاباً يرد به عليه بعنوان " الإنسان لا يقوم وحده ". وهذا المؤلف رجل من النصارى, لكن عنده الإيمان بالربوبية, واعتضد بالعلوم الحديثة، والكشوف العلمية، على بيان حاجة الإنسان إلى الرب, وترجمه بعض المعرَّبين باسم " العلم يدعو إلى الإيمان ". وهو كتاب مفيد، وإن كان قد مضى على تأليفه نحو نصف قرن ؛ لأنه يوقف المؤمن، ويوقف طالب العلم، على حقائق مذهلة من خلق الله عز وجل, وحكمته, ودقيق صنعه، وتدبيره في الأنفس، وفي الآفاق، مما يزيد المؤمن إيماناً .
( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) : معنى ( دحاها ) أي بسطها, وقيل : حرثها، وشقها. وها هنا إشكال مشهور، وهو ما يتعلق بترتيب خلق السموات والأرض، فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة فصلت :
( قُلْأَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) ثم قال : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ,
فهذا الترتيب يدل على أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض، ثم خلق السماء , والذي بين أيدينا ها هنا، أن الله سبحانه وتعالى ابتدأ بذكر السماء
فقال : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ   دَحَاهَا ) ,
فجعل ذكر الأرض بعد ذكر السماء، وهذا في ظاهره مخالف لما في سورة ( فصلت ) ! ولأجل هذا الإشكال سلك بعض المفسرين مسالك فيها نوع تكلف، وتعسف , فمنهم من قال إن معنى قوله : ( والأرض بعد ذلك ) أي قبل ذلك, ولا يخفى التأويل الشديد في هذا؛ بأن يقلب اللفظ إلى ضده , ولو شاء الله لقال قبل ذلك. وقال بعضهم، ويروى هذا عن مجاهد ( والأرض بعد ذلك ) أي مع ذلك , فجعل " بعد " بمعنى " مع ".
ولكن الجواب عن هذا هو ما قاله حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما:
أن الخلق غير الدحو , بمعنى أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض أولاً، ولم يدحها , ثم استوي إلى السماء فخلقها، وسواها , ثم بعد ذلك دحا الأرض. فيكون سبحانه خلق الأرض في يومين كما أخبر في سورة فصلت , لكنه خلقها في يومين من غير دحو , ثم بعد ذلك استوي إلى السماء فخلقها وسواها كما أخبر, ثم دحا الأرض بعد ذلك. وبذلك يزول الإشكال .
( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ) : وهذا يدل على أن معنى (دحاها) أي شقها، وبسطها , فكأن هذه العملية تمت بعد خلق السماء, وهو إخراج مائها؛ بأن جعلها تتفجر ينابيع، ويجرى فيها الماء من الأنهار . وأخرج هذه النباتات الهائلة، التي تملأ الغابات، والبساتين. والمرعى. اسم لمكان الكلأ والعشب , ومرجع الضمير إلى الأرض .
( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) : لما ذكر السماء, وذكر الأرض, ذكر الجبال. والله تعالى يقرن هذه المخلوقات العظيمة في غير ما موضع. فالله تعالى قال مثلاً :
( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال ) , وقال : ( أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) .
ومعنى ( أرساها ) أي أثبتها، وقررها في الأرض؛ حتى لا تميد، ولا تضطرب, كما قال في آية أخرى ( أن تميد بكم ) أي لئلا تميد بكم. والجبال في الحقيقة خلق عجيب؛ إذا رأى الإنسان الجبال الضخمة، الهائلة، الشاهقة، وقف متصاغراً أمام قدرة الله عز وجل, يرى هذا الخلق الهائل، العظيم، الذي يشق أجواز الفضاء بثقله، وصلابته, فيدرك ضآلة خلقه أمام هذا الخلق .
( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ  ) : هذه هي الحكمة من المظاهر الكونية التي ذكرت. ومعنى ( متاعا ) أي متعة، ومنفعة، وسخرة. فربنا، عز وجل، سخر لنا ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة، وباطنة. ( ولأنعامكم ) والأنعام هي الإبل, والبقر, والغنم. وهذه الأصناف الثلاثة أكثر ما يلابس الناس؛ لعظيم منفعتها لهم؛ من حيث الركوب, والأكل, والحلب, ونحو ذلك , فالحاجة إليها ماسة. ولهذا تعلقت بها أحكام الزكاة دون غيرها من المخلوقات والبهائم .
وهذه الآيات في الواقع تكشف لنا عن طريقة القرآن العظيمة، البديعة، في ذكر ملكوت السموات والأرض, وتوظيف ذلك في الإيمان بالله، عز وجل، وترتيبه لما بعده؛ فكما أن الله عز وجل ذكر تلك الآيات في سورة النبأ, ثم عقب عليها بذكر البعث، وما يحصل يوم القيامة,
صنع سبحانه وتعالى ذلك في هذه السورة فقال:
( متاعا لكم ولأنعامكم , فإذا جاءت الطامة الكبرى ) ,
انظر هذه النقلة ! بعد أن ملء قلوبهم، وأبصارهم، بهذه الصور، والمعاني , صاروا الآن مهيئين لإلقاء الحجة الثقيلة عليهم, لأنهم ينكرون البعث. إذاً هذا الخلق البديع، لم يخلقه الله عبثاً, ولن يذهب سدىً, خلق السموات والأرض بالحق, وتمام الحق بالفصل الثاني الذي يقع بعد الطامة الكبرى, فإن أفعاله سبحانه كلها معللة محكمة .
الفوائد :
1- الاستدلال على الأخف بالأشد , وذلك في قوله تعالى : ( أأنتم أشد خلقاً أم السماء ) .
2- بيان دليل من دلائل البعث، والرد على المنكرين, وذلك في قوله تعالى : (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها) , فإذا كان الله، سبحانه وتعالى، خلق السموات والأرض على عظمهما, فمن باب أولى، وأحرى أن يعيد خلق الإنسان .
3- بديع خلق السموات والأرض .
4- تسخير الله للمخلوقات؛ متاعاً لبني آدم , كما قال الله تعالى : ( متاعاً لكم ولأنعامكم ) .
5- أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل .

( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) : الطامة اسم من أسماء القيامة وهي الساعة , والمقصود بها النفخة الثانية التي يحصل بها البعث؛ بدليل ما بعدها من الآيات. وللساعة أسماء متعددة؛ عد منها القرطبي خمسين اسماً, وعد ابن كثير ثمانين. وليعلم أن الأسماء التي سماها الله تعالى, أو سماها نبيه صلى الله عليه وسلم أعلام، وأوصاف, كما أن أسماء الله الحسنى أعلام، وأوصاف, وأسماء نبيه صلى الله عليه وسلم أعلام، وأوصاف, وأسماء القرآن أعلام، وأوصاف, وكذلك أسماء القيامة أعلام وأوصاف؛ فهي أعلام من حيث دلالتها على ذات المسمى, وأوصاف من حيث اختصاص كل اسم منها بوصف يميزه عن غيره. فالطامة ، والصاخة ، والحاقة ، والغاشية ، والآزفة , كلها أسماء لمسمى واحد , لكن كل اسم منها يحمل دلالة خاصة؛ فالصاخة تصخ الآذان , والقارعة تقرع القلوب , والآزفة قريبة الوقوع , والطامة لأنها تطم كل هائلة سواها؛ أي تغمرها. وكل داهية دونها. ولذا سماها (الكبرى) , وما عظمه الله فلا ريب أنه عظيم .
( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ) : قيل أن هذا جواب " إذا " في قوله : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) أي حينئذ يتذكر الإنسان ما سعى. وقوله : ( الإنسان ) أي جنس الإنسان , من مؤمن وكافر , وقوله : ( ما سعى ) أي في الحياة الدنيا , ما قدم، وما فرط منه. قال صلى الله عليه وسلم :} كل الناس يغدو , فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها { حينما يُبعث الإنسان يوم القيامة , يمر عليه شريط الحياة التي حياها ستين سنة , أو سبعين سنة , أو تسعين سنة , أو أقل , أو أكثر , يتذكره كله، كما قال تعالى : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود أن لو بينها وبينه أمدا بعيداً ) , وكما قال تعالى في سورة الفجر : ( يومئذ يتذكر الإنسان وأنا له الذكرى ) هذه الذكرى لا فائدة من ورائها .
( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ) : ( برزت ) أي أظهرت , كما في الحديث الصحيح : } يؤتى بجهنم يوم القيامة، لها سبعون ألف زمام , مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها { , وهذا يدل على أنها خلق عظيم هائل، وأنه مشهد مخوف .
( فَأَمَّا مَنْ طَغَى ) : ابتدأ التقسيم , ومعنى ( طغى ) أي تجاوز ؛ لأن الطغيان معناه التجاوز , كما قال الله، عز وجل : ( إنا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية ) يعني لما تجاوز حده , والمقصود ( فأما من طغى ) أي تكبر , وتجبر , وعصى , وكفر .
( وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) : ( آثر ) بمعنى قدّم، وفضّل الحياة الدنيا على الآخرة, وذلك باتباع الشهوات, فلم يؤمن , ولم يستجب , وقال كما قال هؤلاء المنكرون للبعث: (أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر) , فنظرتهم هي النظرة الدنيوية المادية، التي ترى أن الذكي، والحاذق، هو الذي يعب من الحياة عباً، ويقتنص الشهوات حيث ما توفرت له، ولا يلزم نفسه بشيء . وهذه الحياة الدنيوية هي حياة من يسمون بتعبير العصر (العَلمانيين) نسبة إلى العالَم، أي الدنيا، لا نسبة إلى العِلم، كما يلفظها بعض الناس، بكسر العين . والترجمة الصحيحة لهذه اللفظة الأوروبية (الدنيويون)، يعني الذين هم بإزاء (الدينيين) أهل الدين. فهؤلاء لا يعنيهم إلا متاع الحياة الدنيا، ولا ينظرون إلا بمنظور المادة, ولا يعنيهم أمر الدين. فهؤلاء هم الذين يصدق عليهم قول الله عز وجل : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا .فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) .
( فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ) : ( الجحيم ) اسم من أسماء النار , وهي علم، ووصف ؛ وسميت بالجحيم لتجحمها, يعني لأنها تجحمت من شدة الإيقاد عليها، فهي سوداء مظلمة. ومعنى ( المأوى ) يعني المرجع، والمآل .
( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ) :
هذا هو القسم الثاني , و ( من ) بمعنى الذي, ( خاف مقام ربه ) يعني خاف المُقام بين يدي الله، عز وجل. فبين عينيه دوماً أنه سيقف بين يدي الله، ليس بينه وبينه ترجمان, فينظر أيمن منه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا عمله, ويرى النار أمامه, والله تعالى من فوقه يحاسبه، ليس بينه وبينه ترجمان، كما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن يخاف من هذا المقام بين يدي الله. وقد أثمر هذا الخوف نهي النفس عن الهوى, والمقصود بالهوى ما تهواه النفس, أي تميل إليه , وغلب استعمال الهوى على الأمر المذموم, وإلا فقد يهوى الإنسان أمراً محموداً. فهذا الموفق، نهى النفس عن الهوى. والنفس الله لها ثلاثة أحوال: تارة تكون مطمئنة , وتارة تكون أمارة , وتارة تكون لوامة . فالمقصود بقوله :( ونهى النفس ) جنس النفس الأمارة، وهي التي تأمر صاحبها بالسوء،
كما قال الله، عز وجل، على لسان امرأة العزيز :
( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ).
وعلى النقيض منها النفس المطمئنة، ذات القلب المطمئن،
قال الله عز وجل : ( يأيتها النفس المطمئنة , ارجعي إلى ربك راضية مرضية , فادخلي في عبادي وادخلي جنتي )
نفس ساكنة، خاضعة، راضية، رضية , رضيت بالله رباً , وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً , ليس لها نزعات، وتطلعات، وميولات، وهفوات, فهي تحب ما يحب الله, وتبغض ما يبغض الله، 
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : } لا يؤمن أحدكم - يعني الإيمان الكامل - حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به { . هاتان نفسان متقابلتان. وبين هاتين النفسين، نفس تترد جيئة، وذهاباً, تارة تنزعها حالة النفس الأمارة, وتارة تنزعها حالة النفس المطمئنة, وهى التي أقسم الله تعالى بها بقوله : ( لا أقسم بيوم القيامة , ولا أقسم بالنفس اللوامة ) يعني التي تتلوم على صاحبها , والتلوم هو التلون؛ بمعنى أن لها لوناً تارة ولوناً تارة أخرى, فهي لأغلبهما. فنفوسنا في الأعم الأغلب، نسأل الله أن يصلح أحوالنا، نفوس لوامة , فإنِ الإنسان غلّب الإيمان، ووعظ نفسه، نزع إلى جانب النفس المطمئنة, وإن هو اتبع هواه، وتمنى على الله الأماني، مال إلى النفس الأمارة, فلهذا قال الله عز وجل: ( ونهى النفس عن الهوى ) , وهذا يحمل معنى المجاهدة ؛ لأن النفس تحتاج إلى مجاهدة, لابد من فقه النفس , يجب أن تعلم أن نفسك التي بين جنبيك، قد أودعها الله الخير والشر, قال سبحانه :
( ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها ) ,
 فنفسك ليست نفس ملَك قد تمحض للخير, وليست نفس شيطان قد تمحض للشر, بل أُلهمت فجورها وتقواها, بمعنى أنه قد أُودع فيها الاستعداد للخير، والاستعداد للشر, وهذا هو محل الابتلاء، فلأجل هذا قال الله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا, وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) , فالمؤمن يزكي نفسه وينقيها، لا يزال يصلحها، ويتعاهدها، حتى تزكو , والكافر لا يزال يدسيها، ويخفي خيرها، حتى تخيب. ومهمة المؤمن أن يجاهد، حتى يرقى في سلم الكمالات، والمراتب العالية. ألم تروا أن الله سبحانه وتعالى قال : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ) تأمل قوله : ( آتينا إبراهيم رشده ) , إذاً! عندك رشد يمكن أن تؤتاه , ويمكن ألا تؤتاه . فالموفق هو الذي يستنبط هذا الرشد في نفسه, والمحروم هو الذي يدعه مطموراً مغيباً.  لقي النبي صلى الله عليه وسلم الحصين بن معبد الخزاعي، والد عمران بن الحصين، رضي الله عنهما، قال له : } يا حصين كم تعبد ؟ قال: سبعة ؛ ستة في الأرض، وواحداً في السماء. قال: فمن الذي تعده لرغبك ورهبك ؟ يعني إذا ادلهمت الأمور، واشتد الخطب، أين يتوجه قلبك؟ قال: الذي في السماء.
قال : فاعبده، ودع ما سواه فإنك إن أسلمت علمتك كلمتين { , ثم إن الحصين مضى , وبعد ذلك منّ الله عليه، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، وقال: يا رسول الله إنك وعدتني إن أنا أسلمت أن تعلمني كلمتين , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم , قل : " اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي "  فالموفق هو من ألهمه الله رشده، كما آتى إبراهيم رشده، وأعاذه الله من شر نفسه. في نفسك التي بين جنبيك شر , لو خرج هذا الشر ألقاك في المهالك، فأنت تسال الله أن يقمع هذا الشر, وتسأله أن يظهر هذا الخير. وما مثل ذلك، إلا كمثل بلد يوجد في أرضه نفط، ومعادن، وأحجار كريمة, فإن أهله قاموا عليه، واستنبطوا هذه الخيرات المكنونة، ازدهر البلد، وصار من الدول المتقدمة, وإن هم تركوا هذه الخيرات تحت أطباق الأرض لم ينتفعوا منها. كذلك النفس فيها من الخير المذخور، ومن الرشد ما يحتاج إلى استنباط واستخراج. فإن أنت فعلت، واستنبطته، واستخرجته، وزكيت نفسك، انتفعت دنيا، وآخرة. وإن أنت أهملته وتركته حرمت .
( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) : الجنة لا يدخلها إلا نفس طيبة، قد تخلصت وتنقت من شوائبها، وعوالقها الرديئة. والمأوى هو المرجع والمصير .
هذا تمام التقسيم، جواب عن قوله : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) يعني فإذا جاءت الطامة الكبرى انقسم الناس إلى فريقين , فريق مآله إلى الجنة وفريق مآله إلى النار .
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) : يعني متى وقت وقوعها، وحصولها، كأنه مأخوذ من رسو السفينة , فالسفينة تمخر عباب البحر، ثم ترسو على الشاطئ .
( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ) : أي في أي شيء أنت من ذكراها, كأنه يقول: ليس هذا من شأنك , كما قال صلى الله عليه وسلم لجبريل، عليه السلام، لما سأله عن الساعة قال : } ما المسؤول عنها بأعلم من السائل { , ولما قال له أعرابي : متى الساعة ؟ قال : }ما أعددت لها؟ { , فأمر الساعة قد أخفاه الله، عز وجل، كما قال في آية الأعراف : ( لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها ) , فالساعة قد أخفاها الله , و كل ما تسمعون من دعاوى، ومزاعم، أن انتهاء العالم سيقع عام كذا، وكذا، فهو رجم بالغيب, يقول الله،عز وجل : ( قل لا يعلم من في السموات ومن في الأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ) .
( إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) : أي أن موعدها، علمه عند ربك , فهو مما اختص الله تعالى بعلمه، كما أخبر عن ذلك في آخر سورة لقمان فقال : ( إن الله عنده علم الساعة ) .
( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ) : هذه مهمتك التي ينتفع بها غيرك؛ ليس الإعلان عن موعد الساعة , وإنما النذارة من هذه الساعة , ( من يخشاها ) يعني من يخشى الساعة، هو الذي تحصل له النذارة , والنذارة: هي الإخبار بالأمر المخوف .
( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) : يعني عشية يوم، أو ضحوته، والعشية هي آخر   اليوم، والضحى أوله , كما أخبر سبحانه وتعالى في موضع آخر عنهم، فقال : ( إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً) , سبحان الله ! تمضي كل هذه السنين والعقود، فتبدوا للناظر يوم القيامة، كأنما هي عشية أو ضحاها, فيالها من موعظة بليغة !.
هذه السورة تقرع القلوب , وتوقظ النفوس الغافلة , وتحقق عقيدة الإيمان بالبعث. ففيها أبلغ رد على منكري البعث الذين زعموا أن لا بعث ، ولا نشور. فجاءت هذه الآيات العظيمة مثبتة لليوم الآخر، مؤكدة للبعث الذي أخبر به النبيصلى الله عليه وسلم . ويلاحظ التماثل، والتناظر بين سورتي النبأ و النازعات .
الفوائد :
1- أن أسماء القيامة أعلام وأوصاف .
2- هول القيامة الكبرى؛ لأن الله سماها الطامة .
3- ذكر الإنسان لسعيه بعد البعث .
4- إثبات الجنة والنار.
5- أن الجزاء من جنس العمل .
6- إثبات أفعال العباد, وترتب الثواب والعقاب عليها, مما يدل على أن للعبد فعل، ومشيئة، واختيار يؤاخذ عليه، ويثاب عليه .
7- كمال عدل الله عز وجل .
8- شؤم الطغيان، وإيثار الشهوات.
9- فضل الخوف من الله، ومجاهدة النفس.
10- تشوف الناس للعلم بالساعة.
11- اختصاص الله تعالى بعلم الساعة .
12- أن العبرة بالإعداد لها .
13- حقارة أمر الدنيا في الآخرة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق