ساعدنا على تحسين موقعنا

Translate

سورة عبس



سورة عبس

لحفظ الملف الصوتي
انقر بزر الماوس الأيمن واختر save target as
سورة عبس
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
سورة (عبس) سورة مكية , تتضمن مقاصد عظيمة منها :
المقصد الأول : بيان القيم الحقيقية .
المقصد الثاني: إثبات البعث وأهوال القيامة .
المقصد الثالث : تقرير توحيد الربوبية .
نزلت هذه السورة في حادثة جرت للنبي صلى الله عليه وسلم  في مكة،  فقد كان يعرض الإسلام على عظماء قريش، وصناديدهم، من أمثال عتبة بن ربيعة , وشيبة بن الربيعة , وأبي جهل , وأمثالهم ؛ رجاء إسلامهم، وطمعاً في استمالتهم، وإعزاز هذا الدين. وفي هذه الأثناء، أقبل عليه رجل أعمى، وهو عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم، رضي الله عنه، جاءه مسترشداً, ففي حديث عائشة، رضي الله عنها، أنه كان يقول : أرشدني , فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه, فيقول : هل قلت شيئاً فيه بأس , فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا. وكلح بوجهه، وقطب، وكره سؤاله، فأنزل الله هذه الآيات، التي لا يوجد لها نظير في القرآن العظيم، في العتب على النبي صلى الله عليه وسلم، وبَّين له القيم الحقيقية التي ينبغي أن ينبني عليها تقويم الإنسان للذوات، مهما كانت المصالح الموهومة .
( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) : "عبس " أي كلح بوجهه، وقطب بجبينه, وهذا التعبير كناية عن الكراهة، والامتعاض من قدوم هذا السائل الأعمى، في هذا الحال.
ومعنى " تولى " أي أعرض، وصد عنه. فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم حيال هذا الأعمى أمر باطني، وأمر ظاهري, فالأمر الباطني: دل عليه قوله " عبس " لأن هذا العبوس ينبئ عما قام في نفسه من الكراهة، وأما الأمر الظاهري: فهو الإعراض عن ذلك السائل .
( أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ) : يعني أن الحامل له على ذلك، هو مجيء الأعمى. وقد وصفه الله تعالى بهذا الوصف " الأعمى " من باب حكاية الحال, وفي هذا دليل على أنه لا بأس بوصف الإنسان بما فيه على سبيل التعريف، لا على سبيل التعيير, ولم يزل العلماء يحتملون الألقاب المعرِّفة بأصحابها، كما نجد ذلك كثيراً عند المحدثين، كقولهم: الأعمش, والأعرج, والطويل، وغير ذلك, وذلك مما استثنى من الغيبة.
كما أن في وصفه بهذا الوصف " الأعمى " : فيه نوع إعذار له، بأنه ما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشغول بهذا الحال، إلا بسبب كونه أعمى, وربما لو كان بصيراً، ورأى اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم، بمن بين يديه، لتريث إلى أن يفرغ .
ونلحظ نوع تلطف من الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم في العتاب، بأن ساق هذه الحادثة على سبيل الخبر، بالفعل الماضي فقال: ( عبس وتولى ) , ولم يقل :  " عبست وتوليت " . وهذا يدل على أنه ينبغي لمن أراد المعاتبة، أو النصيحة، أن يتلطف ولا يعنف, فإن التعنيف قد يكون مدعاة لرد الموعظة، والنصيحة, فليتعلم الدعاة من ربهم كيف يعاتبون، وكيف ينبهون على الأخطاء.
( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) : أي ما يعلمك أنه قد يتزكى بسؤاله  هذا , ومعنى ( يزكى ) التزكية هي التطهر من الآثام، والذنوب، والكفر، والفسوق، وغير ذلك, وأصله يتزكى. فلعله بسؤاله هذا، وقوله: أرشدني، علمني مما علمك الله، أن يتطهر. وذهب ابن زيد، رحمه الله، إلى أن معنى يزكى: يسلم ! وأن ابن أم مكتوم حين أتى النبي  صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلماً، فقصد بالتزكية في الآية، الإسلام. إلا إن سياق الآيات التالية يدل على أنه، رضي الله عنه، كان مسلماً إذ ذاك.
( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) : ومعنى الآية، مع التي قبلها، أنه لم يخله من حالين إحداهما " أن يزكى " والأخرى " أن يتذكر " وفي ذلك توجيهان :
التوجيه الأول: أن ذلك من باب التحلية بعد التخلية , أي أن تكون التزكية دالة على التطهر، والتخلص من الآفات، والذنوب، والعيوب, ثم تكون الذكرى من باب التكميل؛ بفعل الطاعات، والبر، ونحو ذلك. فيكون المقصود الترقي.
التوجيه الثاني : أن التزكية يراد بها الأكمل، الأتم، بأن يتحقق له زكاة النفس؛ إما بالإسلام إن لم يكن قد أسلم, وإما بالتوبة النصوح، إن كان قد ألمَّ بخطأ. فإن لم يتحقق ذلك كله، فلعله أن يتحقق بعضه، وهو أن يحصل تذكر, فيكون هذا انتقال من الأعلى إلى الأدنى. فيكون المقصود التنويع .
ولا يخفى أن الذكرى تنفع المؤمنين، كما قال الله عز وجل: ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ), وذلك أن القلب يتراكم عليه من الغفلات، والشهوات، ما يحجبه عن نور الإلهية، فإذا ذكِّر استنار, ولهذا جاء في الحديث : } إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد , فقيل : وما جلائها يا رسول الله ؟ قال ذكر الله { . فتوالي الغفلات، والشهوات يلقي على القلب الران أو الغان, والران أشد من الغان، قال تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كان يكسبون ) فالكسب الحرام والمعاصي غلف القلب فلا تنفذ إليه المواعظ. والغان دون ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : } إنه ليغان على قلبي حتى أذكر الله { فإذا ذكر الله عز وجل انقشع, فالذكرى نافعة على كل حال؛ إن لم تنفع نفعاً كلياً، نفعت نفعاً جزئياً.
( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ) : هذا بداية تقسيم, إما أن يكون المراد باستغنائه أنه استغنى عنك، وزهد فيك، وبدعوتك، وأظهر الإعراض عنك, وإما أن يكون استغنى أي بماله ودنياه، لكونه من أهل الثراء، والجاه. والواقع أنه لا مانع من اجتماع الأمرين، بل الغالب أنهما متلازمان؛ فإن أهل الثراء، والترف، والغنى، غالباً ما يزدرون غيرهم لما يقع في قلوبهم من الاستغناء، والشعور بالترفع عن الآخرين. ولعل هذا هو الواقع , فإن الذين تعرض لهم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا من صناديد قريش، وعظمائها وأغنياءها .
( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) : أي تتعرض، وتبذل له نفسك, ونبينا صلى الله عليه وسلم، إنما فعل ذلك، بأبي هو وأمي، رغبة في إسلامهم، لا يريد منهم نوالاً، ولا عرضاً من الدنيا, ولكن حرصاً على إسلامهم؛ ليسلم بإسلامهم من خلفهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يعاني من ذلك حتى إن الله قال له : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) يعني لعلك مهلك نفسك حزناً، على آثارهم ، واتباعهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.
( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) : " ما " إما أن تكون استفهامية، يعني أي شيء يلحقك، ويصيبك، إن لم يتزك هذا الذي استغنى. وإما أن تكون نافية، يعني ( وما عليك ألا يزكى) أي ليس عليك ضير، ولا لوم، ولا عتب، ألا يسلم ؛ لأن مهمتك البلاغ. وعلى كلا التقديرين، فإن الأمر يدل على أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي البلاغ كما قال تعالى: ( إن عليك إلا البلاغ ). فيجب على الرسول أن يبلغ رسالات ربه، فإن استجيب له فذاك, وإن لم يُستجب له، فلا لوم عليه ولا عتب. قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) , وقال : (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وفي هذا، أيضاً، درس للدعاة إلى الله، والواعظين، أن يجعلوا همهم، وجهدهم، في بيان الحق، وإيضاحه، وألا يهتموا كثيراً بالنتائج, فإن النتائج إلى الله تعالى.
( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ) : بذاته وبدافعيته، فهو جاء بنفسه بينما الآخر تقصده وتتصدى له . وتأمل قوله " يسعى "، ولم يقل : " يمشي "، بل جاء مسرعاً، كالذي وصف الله في سورة يس : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) هكذا يصنع الإيمان بصاحبه. إذا اشتعلت جذوة الإيمان في القلب، انطلقت الجوارح، وزال عنها الكسل، والوهن، وصار الإنسان يخب، ويسعى، ويستحث الخطى.
(  وَهُوَ يَخْشَى ) : قام في قلبه من خشية الله ما حمله على قصد نبيه صلى الله عليه وسلم والسؤال عن أمر دينه. والخشية منَّة من الله، عز وجل، فإذا ألهم الله عبده الخشية، ألهمه الخير. والخشية ثمرة العلم, قال الله عز وجل : (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فمن كان بالله أعرف، كان لله أخوف. وفي الآية دليل على أن ابن أم مكتوم، رضي الله عنه، كان إذَّاك مسلماً.
( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) : تتلهى وتتشاغل.
فالمعنى الإجمالي لهذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في أمر اجتهد فيه، فأخطأ؛ حينما كان مشتغلاً بدعوة صناديد قريش، رغبة في دخولهم الإسلام، حيث أعرض عمن جاءه مسترشداً، مستهدياً، مقبلاً غير مدبر، راغباً غير معرض, فكلح وجهه، وقطب جبينه, هذا والرجل لا يراه، ولم يفه بكلمة واحدة , ومع ذلك عاتبه ربه هذا العتاب البليغ المؤثر. وهذا دليل على أننا يجب أن ننظر بنور الله عز وجل، وأن نقوِّم الناس، والأشخاص، بحسب منزلتهم في ميزان الله لا في ميزان البشر؛ فنعظم، ونكرم، من يستحق التعظيم والتكريم. فالمؤمن أحق بالكرامة، والإجلال، وإن كان فقيراً ضعيفاً، صعلوكاً, مملوكاً. والكافر، لا كرامة له , وإن كان غنياً، شريفاً, كما قال الله عز وجل : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) , وقال: ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ).
هذه القيمة الأساسية مما أرساه هذا الدين، وكان به إعلاءً لقيمة الإنسان , فالإنسان ليس قدره بماله، وجاهه، وشرفه، ونسبه, وإنما قدره بما يختزن في قلبه من إيمان, وتقوى. وقد فقه نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا الدرس البليغ، فاستخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين في سفراته, ويروى أنه كان إذا لقيه قال: (أهلاً بمن عاتبني فيه ربي). ولما جاء بعض أشراف العرب؛ الأقرع ابن حابس التميمي, وعيينة بن حصن الفزاري, وغيرهما، ورأوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، عمار بن ياسر, وبلال بن رباح، وصهيب الرومي، رضي الله عنهم, أنفوا، واستنكفوا أن تراهم العرب في مجلس يضم هؤلاء الموالي، وقالوا : يا محمد اجعل لنا مجلساً. فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم, لكن دار بخلده ذلك، فأنزل الله تعالى قوله: ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآيتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) , فحياهم، ورحب بهم, وأبى أن يمتثل لطلب هؤلاء الذين لم يقع الإيمان في قلوبهم بعد.
وهكذا أدب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلما قال أحدهم لبلال، رضي الله عنه: يا ابن السوداء قال : } إنك امرؤ فيك جاهلية {، فما كان من هذا العربي القح، إلا أن وضع خده في التراب، وقال لبلال: طأ بقدمك على خدي، يريد أن يستخرج هذا الدخن، هذه البقية الجاهلية من نفسه، حتى يرى الأمور بنور الله، وحتى يزن الأشياء بميزان الله. قال عمر رضي الله عنه : " أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" يعني بلالاً، رضي الله عنهم، أجمعين.
الفوائد المستنبطة :
الأولى : تلطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم، في المعاتبة.
الثانية : تلطف الله بالأعمى، بما يعذره في فعله .
الثالثة : الحرص على التزكية، والتطهر، من الشرك، والمعصية .
الرابعة : فضل التذكر (أو يذكر فتنفعه الذكرى ) .
الخامسة : ضبط المصالح والمفاسد بالضوابط الشرعية, وتقدير المصلحة والمفسدة بالمعايير الدينية.  ويتفرع عن ذلك أن من الناس من يتوسع بما يسمى (مصلحة الدعوة) فربما يتقحم بعض المحظورات باسم مصلحة الدعوة. وهذا ليس إليه , فإن الدعوة ليست ملكاً لأحد، لأن الدعوة لله عز وجل، فلابد أن يدعو العبد إلى ربه، وفق مراده، ووفق شرعه، وألا يقدم، ولا يؤخر، ولا يصطفي، ولا ينحي، بناءا على محض رأيه، وتقديره، بل لابد أن يستنير بنور الله .
السادسة : هوان المستغنين عن الهدى، المعرضين عنه، على الله .
السابعة : أن وظيفة الداعية هي البلاغ، وليس عليه الهدى ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) .
الثامنة : حرص المؤمن على الهدى، والعلم, وسعيه في تحصيلهما.
التاسعة : أن الخشية ثمرة الإيمان الصادق.
العاشرة : بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإمكان صدور الخطأ منه. فهو بشر يلحقه ما يلحق البشر في الأمور البدنية، والعملية (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلا أنه لا يقر على الخطأ. وهذا هو معنى (العصمة) الحقيقي. بينما آحاد الناس يخطئون، وقد يشعرون، وقد لا يشعرون أما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من عصمة الله له أنه إذا أخطأ، بين له خطئه .
وهذا يرد به على الذين يغالون في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، بغير ما وصفه الله تعالى به، فقد قال تعالى لنبيه : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) فأثبت له ذنباً، كم أثبت للمؤمنين وللمؤمنات، وأمره أن يستغفر لنفسه، ولهم. وقد استجاب لأمر ربه، فكان يستغفر الله في المجلس مائة مرة, وقال عن نفسه : ( فإني استغفر الله سبعين مرة ) .

لحفظ الملف الصوتي
انقر بزر الماوس الأيمن واختر save target as

سورة عبس الجزء الثاني
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
( كَلَّا إِنَّهَا ترذْكِرَةٌ ) : ( كلا ) كلمة ردع، وزجر, ولعلها لم تقل لنبينا صلى الله عليه وسلم في القرآن كله إلا في هذا الموضع, والمشار إليه في قوله ( إنها ) إما هذه الواقعة التي جرت، ففيها تذكرة. وإما أن المراد بذلك هذه الآيات التي تلوناها وأنزلناها, وهذا أقرب لدلالة ما بعدها .
( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) : يعني فمن أراد أن يتعظ، ويدَّكر، فهاهي بين يديه. قال بعضهم: إن مرجع الضمير في قوله " فمن شاء ذكره " إلى الله عز وجل, ولكن الأليق بالسياق أن يكون المراد هذه الآيات، بدلالة ما بعدها، لأنه قال : ( فمن شاء ذكره , في صحف مكرمة , مرفوعة مطهرة , بأيدي سفرة , كرامٍ بررة ), إذاً، هذه التذكرة هي هذه الآيات المتلوة، التي حفظت هذه الواقعة, وبهذا نجمع بين القولين.
( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ  ) : أي القرآن المتلو, في صحف مكرمة، يعني أنه مكتوب في صحف كريمة، شريفة .
( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) : أي في منزلة عالية، رفيعة، بعيدة عن الدنس .
( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) : قيل إن السفرة هم كتبة المصحف، يعني القراء. وإلى هذا ذهب قتادة، رحمه الله، فقال: إن السفرة هم اللذين يكتبون هذه الأسفار، وهم كتبة الوحي، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي القراء من الصحابة الذين يحفظون القرآن في السطور، وفي الصدور. وذهب ابن عباس، رضي الله عنهما، في الرواية المشهورة عنه، إلى أن المراد بالسفرة الملائكة, وربما روي من طريق آخر عنه أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , وهي رواية قتادة عنه, والرواية الأخرى المقدمة، هي رواية العوفي عنه. وإنما سمي الملائكة سفرة، لأنهم سفراء بين الله وبين أنبيائه، والأقرب أن المراد بالسفرة الملائكة .
ووصفت هذه الصحف بأنها (مكرمة) و (مرفوعة) و (مطهرة)  لأنها صحف الملائكة التي يستنسخون بها الوحي ويكتبونه فيها. فلا شك أن ما بأيدي الملائكة رفيع القدر، بعيد عن الدنس.
( كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) : وصف الله تعالى الملائكة بوصفين : ( كرام بررة ), كما قال في الآية الأخرى : ( كراماً كاتبين ) والكريم هو الشريف, وأصل البر ما دل على كثرة الخير , فالبار هو كثير الخير. ولهذا سمي البَر بَراً لسعته وكثرته. وقد وصف الله عباده الصالحين بأنهم أبرار , ولم يصفهم بأنهم بررة, كما قال الله تعالى : (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) , أما الملائكة فقد وصفوا بأنهم بررة، لكثرة طاعتهم لله، قال الله عز وجل : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) , (لا يسئمون ) , (لايستحسرون ) , وقال : ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) عليهم صلوات الله وسلامه , وفي هذا ملحظ لطيف، ذكره الحافظ ابن كثير، رحمه الله، وهو أنه ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله، وأقواله، على السداد، والرشاد. فإذا كان الملائكة، سفراء الله إلى أنبيائه، الذين يحملون الصحف المكرمة، المرفوعة، المطهرة، هذا وصفهم " كرام بررة "، فينبغي لحامل القرآن من عباد الله، أن يكون على طريق الرشاد، وعلى سبيل السداد ؛ احتراماً، وصوناً لهذا للكلام الذي بين جنبيه.
( قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ  ) : هذا دعاء من الله عز وجل على الإنسان. ولا يستقيم في هذا المقام أن نقول جنس الإنسان, بل ينبغي أن نخصه بالكافر. وقد لاحظ ابن عاشور، رحمه الله، أن ذكر الإنسان في القرآن المكي، غالباً ما يراد به الإنسان الكافر , كما في قول الله تعالى : ( كلا إن الإنسان ليطغى ).
وقوله ( قتل ) هذا دعاء على الكافر بالقتل. والدعاء عليه بالقتل المراد به اللعن، لأن ذلك طرد، وإبعاد له عن رحمة الله.
وقوله : ( ما أكفره ) تحتمل (ما) معنيين :
أن تكون تعجبية : أي ما أشد كفره, فالله خلقه، ورزقه، وأعده، وأمده، ثم يكفر به ! أو تكون استفهامية : يعني أي شيء أكفره ؟ لماذا كفر ؟ وكأنها تعجبية أوقع .
( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) : هذا الاستفهام للتقرير ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم, والمراد ما أصل خلقه ؟ .
( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه ُ) : والمراد هنا: من سوى آدم عليه السلام , لأن آدم عليه السلام خلق من قبضة من تراب, والمراد بالنطفة: هو نطف المني ودفقته. هذا أصل خلق الإنسان, ما يقذفه الرجل في رحم الأنثى، يكون منتن الريح، يستحي من ذكره. وقد جاء العلم الحديث ليبين أن حال الإنسان أحقر حتى مما كان يفهم من مجرد الصورة الظاهرة للنطفة؛ فالإنسان يخلق من خلية لا ترى إلا بالمجاهر الدقيقة, فهذه النطفة، أو القذفة المنوية، تحتوي على ملايين الحيوانات المنوية. فتأمل بداية  خلق الإنسان ! فما الذي يجعله يشمخ بأنفه، ويتعالى على ربه، ويستنكف عن عبادته ؟
( فقدره ) بعد أن خلقه، أمده، وأعده, أعطاه الآلات، والأدواتن التي يقدر فيها على الفعل، والكسبنوالحرث، والضرب في الأرض .
( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) : قيل في معنى ( السبيل ) قولان :
إما أن المراد بالسبيل: طريق خروجه من بطن أمه. وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا الأمر مدهش ! هذا الجنين الذي احتواه الرحم تسعة أشهر، يسهل الله تعالى مخرجه من هذه المخارج الضيقة ! ويجري من التغيرات العضوية على الرحم، ومخرج الولد، ما يجعله يتسع، ليخرج منه هذا الكائن.
وقيل أن المراد بالسبيل: هو طريق الحق أو الباطل. ومعنى ( يسره) أي مهد له ذلك السبيل، وبين له الخير من الشر، كما قال في الآية الأخرى : ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). فهذه الآية تؤيد المعنى الآخر، وإلى هذا ذهب مجاهد، رحمه الله، ويشهد له قول الله عز وجل : ( وهديناه النجدين ) يعني الطريقين؛ طريق الخير، وطريق الشر. ولا مانع من حمل الآية على المعنيين؛ لأنه لا تعارض بينهما.
( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) : يعني بعد أن طوى هذا العمر، سالكاً طريق الخير، أو الشر، أماته , لأن الله تعالى قضى بالموت على كل حي، حتى ملك الموت يموت , فلا يبقى إلا الله الواحد القهار. والموت أمر وجودي، كما قال الله تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ) فالموت إذاً أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى ( أقبره ) أي أمر بدفنه ؛  وفي اللغة يقال " قابر " ويقال  " مُقبر " فالقابر هو الذي يباشر الدفن, والمُقبر هو الذي يأمر بالدفن. فهنا قال: ( فأقبره ), ولم يقل " فقبره ". والدفن سنة كونية، ولهذا لما قتل ابن آدم الأول أخاه ( بعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من    النادمين ) , فلم يزل بنو آدم  يقبرون موتاهم، إلا من طمسه الله عز وجل، من الذين يحرقون الموتى, لكنهم بعد إحراقهم للموتى يدفنون رمادهم .
( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) : أي بعثه وأحياه بعد موته. وقوله ( إذا شاء ) ليس المراد أنه قد يشاء أن ينشره، وقد لا يشاء ذلك؛ لأنه لابد من البعث, وإنما المراد زمن بعثه، يعني إذا شاء أن ينشره أنشره في الوقت المعين.
ولو تأملنا في هذه الآيات، لوجدنا أن العطف يقع تارة " بثم "  وتارة " بالفاء " فمن الناحية البلاغية، سنجد أن العطف جاء " بالفاء " فيما يقصد به التعقيب المباشر ,       و " بثم " فيما يفصله عما قبله تراخي , قال ( من نطفة خلقه فقدره ) أعطاه الآلات التي يقدر فيها على قضاء مصالحه, بعد ذلك قال: ( ثم السبيل يسره ) لأنه جرى بعد ذلك فاصل، سواء على القول الأول أنه خروجه من رحم أمه؛ لأنه أخذ يترقى في الخلقن من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى أن كسا العظام لحماً , فأتى " بثم " لوجود فاصل زمني , أو على القول الثاني أنه الخير، والشر، بأن يمضي عليه سنوات حتى يصبح مكلفاً، فهذا فاصل زمني يناسب أن يأتي بعده " بثم ". ثم قال ( ثم أماته )، لأنه قد عاش ردحاً من الزمن، فناسب أن يأتي " بثم " التي تدل على تراخ وفاصل طويل , ثم قال: ( فأقبره ) أتى " بالفاء " لأن الفاصل بين الموت والدفن فاصل قصير. ثم قال: (ثم إذا شاء أنشره ) أتى " بثم " لأن بين موت الإنسان وبعثه زمن طويل . فتأمل!
( كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) : أي ليس الأمر كما يظن ذلك الكافر المنكر للبعث، أنه أدى ما عليه، وأنه لا شيء عليه، وغير ذلك , كلا! فإنه لم يؤد حق الله الذي افترضه عليه .
الفوائد المستنبطة :
الأولى: وصف القرءان بالتذكرة .
الثانية : إثبات مشيئة العباد، وأفعالهم (  فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ), وفي هذا رد على الجبرية الذين يسلبون العبد مشيئته، وفعله. فالعبد له مشيئة حقيقية , لكن مشيئته داخلة تحت مشيئة الله ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ.وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
الثالثة : كرامة كلام الله, وكرامة محله، وحملته.
الرابعة : أن القرآن كلام الله، ليس كلام الملائكة، لقوله ( سفرة ) لوصفهم بالسفارة فمهمتهم النقل فقط. ففيه الرد على المعتزلة الذين قالوا إن القرآن كلام محمد، أو جبريل، وليس كلام الله الصادر منه.
الخامسة : إثبات الملائكة، ووصفهم بالكرامة وكثرة البر
السادسة : ذم الكافر الجاحد، والتعجيب من حاله .
السابعة : بيان أصل الإنسان المهين.
الثامنة : بيان فضل الله على الإنسان قدراً، وشرعاً، أما قدراً فلقوله ( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ , ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ , ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) , وأما شرعاً فلقوله ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه ُ) على القول إن السبيل المراد به طريق الحق والباطل .

لحفظ الملف الصوتي
انقر بزر الماوس الأيمن واختر save target as

سورة عبس الجزءالثالث
( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42))
( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) : هذه دعوة من الله عز وجل للإنسان , والمراد به هاهنا جنس الإنسان ؛ لأن هذا لا يختص بالكافر, وإن كان الخطاب يتوجه بالدرجة الأولى إلى الكافر، المنكر للبعث, لكنه في الواقع يتناول المؤمن ليتعظ، ويتدبر. والإنسان بطبعه يتبلد حسه بالنسبة للأمور المألوفة, فلا يلقي لها بالاً، ولا يعتبر دوماً، ولا يتبصر بما يتكرر عليه ليل نهار، صباح مساء. فالله تعالى يصرف فكر الإنسان إلى أقرب الأشياء إليه، وهو هذا الطعام الذي يتناوله يومياً، ولم تحدثه نفسه أن يفكر في مصدره, وكيف سيق إليه ؟
( أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ) : وهذه القراءة هي المشهورة بفتح الهمزة (أَنَّا)، وعلى هذا تكون الجملة بدل اشتمال لقوله ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ). والمراد بصب الماء كون الله عز وجل أنزل المطر على الأرض غزيراً قوياً, متتابعاً .
( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) : و " ثم " ها هنا تفيد التراخي ؛ لأن الإنبات لا يحصل مباشرة , بل يقع في جوف الأرض من التكونات العضوية لهذه النباتات ما يستغرق فترة طالت، أو قصرت. ومعنى ( شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) أن الله سبحانه وتعالى فتق وجه الأرض ، فأخرج هذا النبات. فتجد النبتة تشق الصعيد، أو تبحث من بين الصخور الصلبة عن شق تخرج منه , حتى إذا قويت واشتد عودها فلقت الصخر، بقدرة الله عز وجل .
( فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ) : أي في هذه الأرض, والحب: اسم جنس لجميع الحبوب، فيشمل البر، والشعير، والذرة ، والدخن ، وغير ذلك من أنواع الحبوب .
( وَعِنَبًا وَقَضْبًا ) : العنب هو الكرم , وذكرهما الله تعالى لكرامتهما، عند من نزل فيهم القرآن , فإن الحب قوتهم، والعنب فاكهتهم .
وأما (القضب) التفسير الشامل أو العام لهذه اللفظة أنه كل ما يقضب من النبات، فيجز، فينبت مرة أخرى. ومعنى أنه يقضب من القضب وهو القبض، وجذرهما واحد. وقد اختلفت عبارات المفسرين في معنى القضب، فقيل في معناه: أنها الرطبة يعني أي نبت رطب، وقيل في معناه: العلف، وتحديداً القت, ويلحق به على هذا جميع أنواع البقوليات التي تنبت على وجه الأرض .
( وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا) : الزيتون معروف , وقد ذكره الله في غير ما موضع في  كتابه , وهو شجرة كريمة، ويخرج منه زيت مبارك (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ), والنخل كذلك معروف، وهو الشجرة الرئيسية، والثمرة الأساسية التي يقتاتون منها, ولا ريب أنها من أكرم أنواع الأشجار، بل هي أكرمها، وأعظمها فائدة، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة, وألغز أصحابه يوماً، فسألهم عن شجرة لا يسقط ورقها، مثلها مثل المؤمن، فوقع الناس في شجر البادية, وهذا من الخطأ؛ إذا سئل الإنسان، أن يجنح إلى الأمور البعيدة، ينبغي أن يبدأ بالأقرب. فوقع في نفس ابن عمر، رضي الله عنهما، أنها النخلة، قال: فنظرت، فإذا أنا أصغر القوم، فاستحييت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إنها النخلة, قال: فحدثت أبي، فأسف عمر،رضي الله عنه، وتمنى أن لو أجاب ابنه، ولا أن له بذلك كذا وكذا. والمقصود أن النخل من أكرم الأشجار، وأعظمها بركة. وقد ذكره الله عز وجل، في مواضع كثيرة من كتابه .
( وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) : الحدائق البساتين ؛ لأنها تحدق بمن كان بداخلها  لكثافتها، والتفاف أشجارها. ومعنى ( غلباً ) أي غلاظاً، وقيل عظيمة، وقيل كراماً، والحق أنه يشمل ذلك كله؛ بمعنى أن الحدائق هذه حدائق تحتوي على أشجار ضخمة، عظام، كرام, ولهذا فسرت بأنها النخل الكرام, فمعنى " الغلب " ما يدل على العظمة، والمتانة، والقوة، ونحو ذلك .
( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) : " الفاكهة "ما يتفكه به الإنسان من أنواع الثمار, و" الأب " قيل: إنه النبات عموماً، وقيل إنه ما يختص بطعام الحيوان. وكأن هذه اللفظة " أب " مأخوذة من ( آب ) , فالنبات الذي يحصد، ثم يخرج يقال له " أب " من الإياب، وهو العَود. فيشمل الأعلاف، وما شابهها. فكأنه أراد التقسيم : " الفاكهة " للإنسان , و " الأب " للحيوان. وأما ما يروى عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال لما سئل عن " الأب " : ( أي سماء تظلنيوأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم ) , فهو من حيث السند منقطع, ومن حيث المعنى صحيح؛ فإن الإنسان لا يحل له أن يقول في كتاب الله بمجرد الرأي, بل لابد أن يصدر في ذلك عن أثارة من علم ؛ لأن القول على الله عظيم , وقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يسألون عن الحديث فيحدثون، فإذا سئلوا عن تفسير القرآن أمسكوا، تعظيماً للمقام؛ لأنهم يرون أن هذا قول على الله عز وجل، وتوقيع عن رب العالمين، فكانوا يتحرجون غاية الحرج، أن يقولوا في كتاب الله مالا يعلمون. فالواجب على الإنسان ألا يخوض فيما لا يعلم, ويروى عن عمر، رضي الله عنه، أنه ساءل نفسه عن " الأب " ثم قال، إن هذا لهو التكلف يا عمر! وقد يكون هذا مشكلاً, فقد يفهم بعض الناس من هذا الأثر، وهو صحيح، أن الإنسان لا يسأل عما خفي عليه, لكن لا يظهر أن هذا هو مراد عمر، رضي الله عنه, وإنما كره أن يقول فيه بلا بينة، فعد ذلك تكلفاً، أن يستنبط شيئاً بلا جزم ولا يقين. وربما كان هذا اللفظ " الأب " ليس من لغة قريش، فخفي على عمر، رضي الله عنه؛ فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فبعض ألفاظه ومفرداته، قد لا تكون من لغة قريش, وإنما من لغة بعض أحياء العرب، فخفي على عمر، فنهى نفسه أن يتعجل قولاً بلا جزم ولا بينة، فقال: إن هذا لهو التكلف. ولكن هذا لا يعني أن لا يسأل الإنسان عن معاني ما أنزل الله تعالى على نبيه, لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شاذة، ولا فاذة، إلا بينها، كما قال تعالى : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم ) , وقال : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ ) , وقال : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ ) , وقال : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) , وقال : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) , فلابد من تعقل القرآن جميعه، ومعرفة مفرداته، وتراكيبه, ولكن هذا لا يكون بمجرد الرأي المحض، لابد من تفسيره بالمأثور، وقد بين ابن عباس، رضي الله عنهما أن تفسير القرآن على أربعة أضرب :
الوجه الأول : تعرفه العرب من لغتها : مثل معرفة " غَاسِقٍ " , و " وَقَبَ " , و " الرَّقِيمِ " , و " الأب " ونحو ذلك، فهذا يطلب من علوم العربية ، وقد كانوا ينشدون الأشعار، ويحفظون الشواهد، التي يفسر بها القرآن, وقد جرى بين ابن عباس، رضي الله عنهما، ونافع بن الأزرق سجال في هذا, وكان ابن عباس يستدل على معنى كل لفظة، ببيت من شعر العرب .
الوجه الثاني : ما لا يعذر أحد بجهالته : وهو المعلوم من الدين بالضرورة. فإذا قال الله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) , فليس لقائل أن يقول: المقصود بالصلاة هنا الدعاء. لأن الشرع أتى بمعنى اصطلاحي للصلاة، وأنها عبادة ذات أقوال، وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. هكذا.
الوجه الثالث : ما يعلمه العلماء : وهو الذي يحتاج إلى طلب، ورواية، ودراية؛ كمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والخاص والعام.
الوجه الرابع : مالا يعلمه إلا الله، فمن أدعى علمه فهو كاذب : والمقصود به الكيفيات، وحقائق المغيبات, فهذا لا يمكن أن يعلمه إلا الله. فإذا أخبر سبحانه وتعالى أنه ( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فإننا نثبت الاستواء، ونثبت معناه؛ أنه العلو, لكننا لا ندرك كيفيته، فكيفيته لا يعلمها إلا الله. الاستواء معلوم ، والكيف مجهول. وإذا أخبر الله تعالى، عن ما يقع في اليوم الآخر؛ من النفخ في الصور، والبعث، والنشور، والحشر، والصراط، والميزان, فإننا نعلم هذه المعاني من حيث اللغة , لكن لا ندرك الكيفيات, فهذا مما أستأثر به الله تعالى بعلمه، أي بعلم كيفيته .
( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) : " متاعاً " أي منفعة مؤقتة؛ لأن المتاع يدل على النفع، ويدل على الاستمتاع. والاستمتاع لابد أن يكون موقوتاً. فهذه المذكورات فيها منفعة لكم، وفيها منفعة لأنعامكم. ثم لاحظ أن هذه الأنعام تحيل ذلك إلى طعام؛ فيؤخذ منها اللبن، ويؤخذ منها الزبد، والسمن، واللحم. إذاً هي أيضاً تعود إلى الطعام، فتدخل في عموم قوله ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ).
فهذه الجولة في هذه المكونات الغذائية، التي ينبتها الله تعالى على وجه الأرض، ويتناولها الناس، تجعل الإنسان في موقف المتدبر لطعامه، من حين أنزل الله المطر من السماء، إلى أن وصلت إلى فيه. هذه المراحل تستدعي منه النظر، والاعتبار، والتفكر.
( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ) : الصاخة: اسم من أسماء الساعة. وسميت بذلك لأنها تصخ الآذان لشدة صوتها، فهي صيحة مرعبة، مدوية.
(  يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ): هذا وصف لتفاصيل القيامة، وهو مشهد مرعب، مفزع , أقرب الناس إليه، من يتمنى أن يفديهم في دنياه ، وأن يدفع عنهم الأذى ، ويتمنى أن يصيبه دونهم , يوم القيامة، يفزع منهم، وينفض يديه منهم، ويفر منهم , لا أحد ينعطف على أحد، ولا أحد يلتفت على أحد. حتى أخيه الذي درج معه في مراتع الصبا، لا يباليه يوم القيامة، ولا يلتفت إليه .
( وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ) : سببا وجوده في هذه الحياة، أحن الناس عليه، وأشفقهم به , يفر منهم. يسألانه حسنة واحدة، فلا يبذلها لهما, يقول نفسي! نفسي! النجاء! النجاء!
( وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) : الصاحبة: هي الزوجة، ألصق الناس به, والتي جعل الله بينه وبينها، في هذه الدنيا مودة، ورحمة،يوم القيامة، يفر منها, وفلذة كبده، وبضعة منه، يفر منه يوم القيامة .
لا ريب أن هذا يدل على هول المطلع، وعظم الموقف، وأن الإنسان ما كان ليبدر منه هذا التنصل من أقرب الناس إليه، إلا لشدة الحال. ولو تأملت في حياتك الدنيا، لوجدت أنك لو رأيت بعض هؤلاء الأحبة يغرق لألقيت نفسك عليه، لتستنقذه، وربما تهلك معه, وإذا وجدته يحترق، ربما ألقيت نفسك عليه، وإذا فقدته لحقك حزن عظيم، وهم، واكتئاب. لكن تأمل ! يوم القيامة، لا مكان لهذه المشاعر، لأن المرء يدرك أن أمامه مصير مستديم، وهول عظيم، يريد أن ينجو بنفسه، يريد أن ينقذ ذاته، لا يلوي على أحد .
( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) : يعني يغنيه عن النظر إلى غيره
كلانا غني عن أخيه حياته            ونحن إذا متنا أشد تغانيا
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَة ٌ) : في ذلك الموقف العصيب يتمايز الناس؛ فمن خافه في الدنيا، أمنه في الآخرة, ومن أمنه في الدنيا، أخافه في الآخرة. وإنما عبر الله تعالى عن الذوات بالوجوه، لأن الوجه هو مرآة الإنسان، بل هو مرآة القلب فتظهر انفعالات القلب على الوجه, فالوجه صفحة ظاهرة، تنبيء عما في الباطن. ومعنى ( مسفرة ) مضيئة مستنيرة, ووصف الوجوه بأنها ( ضَاحِكَةٌ ) لأن الضحك يرى في الوجه, والضحك يكون من فرح، ومن أنس، ومن موعود حسن, ومعنى ( مستبشرة ) أي فرحة، متفائلة، لما تنتظر ما عند الله عز وجل من النعيم، والفضل. جعلنا الله وإياكم منهم .
( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) : كالحةٌ مظلمةٌ .
( تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) : أي سواد، وظلمة، كما قال الله في الآية الأخرى : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) .
( أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) : جمعوا بين فسادين؛ بين فساد القلب، وفساد العمل, فساد القلب دل عليه وصفها بالكفر، وفساد العمل دل عليه وصفها بالفجور.

الفوائد المستنبطة :
الأولى :فضيلة التفكر في نعم الله وآلائه , والدعوة إلى ذلك.
الثانية : بديع صنع الله في النفس، والآفاق.
الثالثة : كرم هذه الثمرات، والنباتات, لأن الله تعالى ما خصها بالذكر إلا لمزيد مزيتها.
الرابعة : وجوب شكر المنعم وعبادته ؛ لأنه قال ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ).
الخامسة :  عظم أمر الساعة، وهول أحوال يوم القيامة.
السادسة : تبرؤ الإنسان من أقرب الناس إليه يوم القيامة.
السابعة : أن الجزاء من جنس العمل.
الثامنة : أن الكفر كفران؛ كفر اعتقادي، وكفر عملي ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) , لأن الموصوف جمع بين فسادين؛
🔹بين فساد القلب،
🔹وفساد العمل.
💫فساد القلب دل عليه وصفها بالكفر،
💫وفساد العمل دل عليه وصفها بالفجور..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق